* سورة
التكوير من السور المكية، وهي تعالج حقيقتين
هامتين هما: "حقيقة القيامة" وحقيقة "الوحي والرسالة" وكلاهما من لوازم
الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة
ببيان القيامة وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل، يشمل الشمس، والنجوم، والجبال،
والبحار، والأرض، والسماء، والأنعام، والوحوش، كما يشمل البشر، ويهز الكون هزاً
عنيفاً طويلاً، ينتثر فيه كل الوجود، ولا يبقى شيء إِلا وقد تبدَّل وتغيَّر من هول
ما يحدث في ذلك اليوم الرهيب {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا
النُّجُومُ انكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا
الْعِشَارُ عُطِّلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ* وَإِذَا
الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} الآيات.
* ثم تناول حقيقة الوحي،
وصفة النبي الذي يتلقاه، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي الذي نزل لينقلهم من
ظلمات الشرك والضلال، إِلى نور العلم والإِيمان {فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الْكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذَا
عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ* إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة
ببيان بطلان مزاعم المشركين حول القرآن العظيم، وذكرت أنه موعظةٌ من الله تعالى
لعباده {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ* إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ
لِلْعَالَمِينَ* لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا
تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ}.
القيامة وما يصحبها من
انقلاب كوني
{إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ} هذه الآيات بيانٌ لأهوال القيامة وما
يكون فيها من الشدائد والكوارث، وما يعتري الكون والوجود من مظاهر التغيير والتخريب
والمعنى: إِذا الشمس لُفَّت ومُحِيَ ضوءها {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}
أي وإِذا النجوم تساقطت من مواضعها وتناثرت {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}
أي وإِذا الجبال حركت من أماكنها، وسُيّرت في الهواء حتى صارت كالهباء كقوله تعالى
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} {وَإِذَا
الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} أي وإِذا النوق الحوامل تركت هملاً بلا راعٍ ولا طالب،
وخصَّ النوق بالذكر لأنها كرائم أموال العرب {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}
أي وإِذا الوحوش جُمعت من أوكارها وأجحارها ذاهلةً من شدة الفزع {وَإِذَا
الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} أي وإِذا البحار تأججت ناراً، وصارت نيراً تضطرم وتلتهب
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي وإِذا النفوس قُرنت بأشباهها، فقرن
الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح قال الطبري: يُقرن بين الرجل الصالح مع
الرجل الصالح في الجنة، وبين الرجل السوء مع الرجل السُّوء في النار {وَإِذَا
الْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ} أي وإِذا البنت التي دفنت وهي حية سئلت توبيخاً
لقاتلها: ما هو ذنبها حتى قتلت ؟ قال ابن جزي: الموءودة هي البنت التي كان
بعض العرب يدفنها حيَّةً من كراهته لها أو غيرته عليها، فتسأل يوم القيامة
{بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} ؟ على وجه التوبيخ لقاتلها {وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ} أي وإِذا صحف الأعمال نشرت وبسطت عند الحساب {وَإِذَا السَّمَاءُ
كُشِطَتْ} أي وإِذا السماء أزيلت ونزعت من مكانها كما ينزع الجلد عن الشاة
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} أي وإِذا نار جهنم أوقدت لأعداء الله تعالى
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} أي وإِذا الجنة أدنيت وقربت من المتقين
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} أي علمت كل نفسٍ ما أحضرتْ من خيرٍ أو شر،
وهذه الجملة {عَلِمتْ نَفْسٌ} هي جواب ما تقدم من أول السورة {إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إِلى هنا، والمعنى إِذا حدثت تلك الأمور العجيبة الغريبة،
علمت حينئذٍ كل نفسٍ ما قدمته من صالح أو طالح.
القسم على صدق القرآن
وصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
سبب النزول
:
نزول الآية (29)
:
{وَمَا
تَشَاءُونَ..}: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
سليمان بن موسى قال: لما أنزلت {لمن شاء منكم أن يستقيم} قال أبو جهل: ذاك إلينا،
إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله : {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
ثم أقسم تعالى على صدق
القرآن، وصحة رسالة محمد عليه السلام فقال {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} أي
فأقسم قسماً مؤكداً بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار، وتظهر بالليل
{الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} أي التي تجري وتسير مع الشمس والقمر ثم تستتر وقت
غروبها، كما تستتر الظباء في كنائسها - مغاراتها - قال القرطبي: النجوم تخنس
بالنهار وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها، كما تستتر الظباء في كناسها - مغاراتها -
قال القرطبي: النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، وتكنس وقت غروبها أي تستتر،
كما تكنس الظِباء في المغار وهو الكناس {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي
وأقسم بالليل إِذا أقبل بظلامه حتى غطَّى الكون {وَالصُّبْحِ إِذَا
تَنَفَّسَ} أي وبالصبح إِذا أضاء وتبلَّج، واتَّسع ضياؤه حتى صار نهاراً واضحاً
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا هو المقسم عليه إِن هذا القرآن
الكريم، لكلامُ الله المنزَّل بواسطة ملك عزيز على الله هو جبريل كقوله تعالى
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ} قال المفسرون:
أراد بالرسول "جبريل" قوله بعده {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}
أي شديد القوة، صاحب مكانة رفيعة، ومنزلة سامية عند الله جل وعلا {مُطَاعٍ ثَمَّ
أَمِينٍ} أي مطاعٍ هناك في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة الأبرار، مؤتمن على
الوحي الذي ينزل به على الأنبياء {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} قال
الخازن: أقسم تعالى على أن القرآن نزل به جبريل الأمين، وأن محمداً صلى الله عليه
وسلم ليس بمجنون كما يزعم أهل مكة، فنفى تعالى عنه الجنون، وكون القرآن من عند
نفسه{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي وأقسمُ لقد رأى محمد صلى
الله عليه وسلم جبريل في صورته الملكية التي خلقه الله عليها بجهة الأفق الأعلى
البيّن من ناحية المشرق حيث تطلع الشمس قال أبو حيّان: وهذه الرؤية بعد أمر
غار حراء، حين رأى جبريل على كرسي بين السماء والأرض، في صورته له ستمائة جناح قد
سدَّ ما بين المشرق والمغرب {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي وما
محمد على الوحي ببخيل يقصِّر في تبليغه وتعليمه، بل يبلغ رسالة ربه بكل أمانةٍ وصدق
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} أي وما هذا القرآن بقول شيطان
ملعون كما يقول المشركون {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أيْ فأيَّ طريقٍ تسلكون في
تكذيبكم للقرآن، واتهامكم له بالسحر والكهانة والشعر، مع وضوح آياته وسطوع براهينه
؟ وهذا كما تقول لمن ترك الطريق المستقيم: هذا الطريق الواضح فأين تذهب ؟ {إِنْ
هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إِلا موعظة وتذكرة للخلق
أجمعين {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} أي لمن شاء منكم أن يتبع
الحق، ويستقيم على شريعة الله، ويسلك طريق الأبرار {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي وما تقدرون على شيء إِلا بتوفيق الله
ولطفه، فاطلبوا من الله التوفيق إِلى أفضل طريق