* سورة المُلْك من السور
المكية، شأنها شأن سائر السور المكية، التي تعالج موضوع العقيدة في أصولها الكبرى،
وقد تناولت هذه السورة أهدافاً رئيسية ثلاثة وهي "إثبات عظمة الله وقدرته على
الإِحياء والإِماتة .. وإِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين .. ثم
بيان عاقبة المكذبين الجاحدين للبعث والنشور".
* ابتدأت السورة الكريمة
بتوضيح الهدف الأول، فذكرت أن الله جل وعلا بيده المُلْك والسلطان، وهو المهيمن على
الأكوان، الذي تخضع لعظمته الرقاب وتعنو له الجباه، وهو المتصرف في الكائنات بالخلق
والإِيجاد، والإِحياء والإِماتة {تبارك الذي بيده المُلْك ..}
الآيات.
* ثم تحدثت عن خلق السماوات
السبع، وما زيَّن الله به السماء الدنيا من الكوكب الساطعة، والنجوم اللامعة، وكلها
أدلة على قدرة الله ووحدانيته {الذي خلق سبع سماواتٍ طباقاً..}
الآيات.
* ثم تناولت الحديث عن
المجرمين بشيءٍ من الإِسهاب، وهم يرون جهنم تتلظى وتكاد تتقطع من شدة الغضب والغيظ
على أعداء الله، وقارنت بين مآل الكافرين والمؤمنين، على طريقة القرآن في الجمع بين
الترهيب والترغيب {إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور
..}.
* وبعد أن ساقت بعض الأدلة
والشواهد على عظمة الله وقدرته، حذَّرت من عذابه وسخطه أن يحل بأولئك الكفرة
الجاحدين {أأمنتم منْ في السماء أن يخسف بكم الأرض فإِذا هي تمور ..}
الآيات.
* وختمت السورة الكريمة
بالإِنذار والتحذير للمكذبين بدعوة الرسول، من حلول العذاب بهم في الوقت الذي كانوا
يتمنون فيه موت الرسول صلى الله عليه وسلم وهلاك المؤمنين {قل أرأيتم إن أهلكني
اللهُ ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم} ؟ الآيات ويا له من وعيد
شديد، ترتعد له الفرائص !!
فضلهــَا:
تسمى
هذه السورة "الواقية" و"المنجية" لأنها تقي قارئها من عذاب القبر فقد قال صلى الله
عليه وسلم (هي المانعة وهي المنجية، تنجى من عذاب القبر) أخرجه
الترمذي.
بعضٌ من أدلة قدرته
تعالى
{تَبَارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ} أي تمجَّد وتعالى اللهُ
العلي الكبير، المفيض على المخلوقات من فنون الخيرات، الذي بقبضة قدرته ملك
السماوات والأرض، يتصرف فيهما كيف يشاء، قال ابن عباس: بيده الملك، يعزُّ من
يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع {وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وهو القادر على كل شيء له القدرة التامة، والتصرف الكامل في
كل الأمور، من غير منازع ولا مدافع .. ثم بيَّن تعالى آثار قدرته، وجليل حكمته فقال
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} أي أوجد في الدنيا الحياة والموت،
فأحيا من شاء وأمات من شاء، وهو الواحد القهار، وإِنما قدم الموت لأنه أهيب في
النفوس وأفزع قال العلماء: ليس الموت فناءً وانقطاعاً بالكلية عن الحياة، وإِنما هو
انتقال من دار إِلى دار، ولهذا ثبت في الصحيح أن الميت يسمع، ويرى، ويُحسُّ وهو في
قبره كما قال عليه السلام (إِنَّ أحدكم إِذا وضع في قبره وتولَّى عنه أصحابه وإِنه
ليسمع قرع نعالهم) الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع
لما أقول منهم لكنهم لا يجيبون) فالموتُ هو انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقتها
للجسد {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي ليمتحنكم ويختبركم -
أيها الناس - فيرى المحسن منكم من المسيء، قال القرطبي: أن يعاملكم معاملة
المختبر، فإِن الله تعالى عالم بالمطيع والعاصي أزلاً {وَهُوَ الْعَزِيزُ}
أي الغالبُ في انتقامه ممن عصاه {الْغَفُورُ} لذنوب من تاب وأناب إِليه
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي خلق سبع سماواتٍ متطابقة،
بعضها فوق بعض، كل سماء كالقبة للأُخرى {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ
تَفَاوُتٍ} أي لست ترى أيها السامع في خلق الرحمن البديع من نقص أو خلل، أو
اختلاف أو تنافر، بل هي في غاية الإِحكام والإِتقان، وإِنما قال {فِي خَلْقِ
الرَّحْمَانِ} ولم يقل "فيهن" تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على باهر قدرة الله
{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}؟ أي فكرّر النظر في السماوات
وردّده في خلقهن المحكم، هل ترى من شقوق وصدوع؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ} أي ثم ردِّد النظر مرةً بعد أُخرى، وانظر بعين الاعتبار في هذه
السماوات العجيبة، مرةً بعد مرة {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} أي
يرجع إِليك بصرك خاشعاً ذليلاً، لم ير ما تريد {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي وهو
كليلٌ متعب قد بلغ الغاية في الإِعياء، قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى
إِنك إِذا كررت نظرك لم يرجع إِليك بصرك بما طلبته من وجود الخلل والعيب، بل رجع
خاسئاً مبعداً لم ير ما يهوى مع الكلال والإِعياء، وقال القرطبي: أي اردد
طرفك وقلّب البصر في السماء {كَرَّتَيْن} أي مرةً بعد أخرى، يرجع إِليك
البصر خاشعاً صاغراً، متباعداً عن أن يرى شيئاً من ذلك العيب والخلل، وإِنما أمر
بالنظر كرتين، لأن الإِنسان إِذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه، ما لم ينظر إِليه
مرة أخرى، والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ
خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} وهو دليلٌ على كثرة النظر .. ثم بيَّن تعالى ما زين
به السماء من النجوم الزاهرة والكواكب الساطعة فقال {وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} اللام لام القسم و{قد} للتحقيق
والمعنى والله لقد زينا السماء القريبة منكم أيها الناس بكواكب مضيئة ساطعة، هي
السماء الأولى أقرب السماواتِ إِلى الأرض، قال المفسرون: سميت الكوكب مصابيح
لإِضاءتها بالليل إِضاءة السراج {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}
أي وجعلنا لها فائدةً أُخرى وهي رجم أعدائكم الشياطين، الذين يسترقون السمع، قال
قتادة: خلق الله تعالى النجوم لثلاثٍ: زينةً للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات
يُهتدى بها في البر والبحر، وقال الخازن: فإِن قيل: كيف تكون زينةً للسماء،
ورجوماً للشياطين، وكونها زينة يقتضي بقاءها، وكونها رجوماً يقتضي زوالها، فكيف
الجمع بين هاتين الحالتين؟ فالجواب أنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل
يجوز أن تنفصل من الكواكب شعلة وتُرمى الشياطين بتلك الشعلة وهي الشهب، ومثلها كمثل
قبسٍ يؤخذ من النار وهي على حالها، أقول: ويؤيده قوله تعالى {إِلا من خطف الخطفة
فأتبعه شهابٌ ثاقب} فعلى هذا، الكواكب لا يرحم بها، وإِنما يكون الرجم بالشهب
{وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} أي وهيأنا وأعددنا للشياطين في
الآخرة - بعد الإِحراق بالشهب في الدنيا - العذاب المستعر، وهو النار
الموقدة.
حال الأشقياء
الكفار
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي وللكافرين
بربهم عذاب جهنم أيضاً، فليس العذاب مختصاً بالشياطين بل هو لكل كافر بالله من
الإِنس والجن {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئست النار مرجعاً ومصيراً للكافرين
.. ثم وصف تعالى جهنم وما فيها من العذاب والأهوال والأغلال فقال {إِذَا
أُلْقُوا فِيهَا} أي إِذا قذفوا وطرحوا في جهنم كما يطرح الحطبُ في النار
العظيمة {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً فظيعاً كصوت
الحمار، لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس: الشهيقُ لجهنم عند إِلقاء
الكفار فيها، تشهق إِليهم شهقة البغلة للشعير، ثم تزفرُ زفرة لا يبقى أحدٌ إِلا خاف
{وَهِيَ تَفُورُ} أي وهي تغلي بهم كما يغلي المرجل - القدر - من شدة الغضب
ومن شدة اللهب، قال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحبُّ القليل في الماء الكثير
{تَكَادُ تَمَيَّزُمِنَالْغَيْظِ} أي تكاد جهنم تتقطع
وينفصل بعضها من بعض، من شدة غيظها وحنقها على أعداء الله {كُلَّمَا أُلْقِيَ
فِيهَا فَوْجٌ} أي كلما طرح فيها جماعةٌ من الكفرة {سَأَلَهُمْ
خَزَنَتُهَا} أي سألتهم الملائكة الموكلون على جهنم - وهم الزبانية - سؤال
توبيخ وتقريع { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} أي ألم يأتكم رسولٌ ينذركم
ويخوفكم من هذا اليوم الرهيب؟ قال المفسرون: وهذا السؤال زيادة لهم في
الإِيلام، ليزدادوا حسرةً فوق حسرتهم، وعذاباً فوق عذابهم {قَالُوا بَلَى قَدْ
جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} أيأجابوا نعم لقد جاءنا رسول منذر، وتلا
عليناءايات الله، ولكننا كذبناه وانكرنا رسالته
{وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي وقلنا إِمعاناً في التكذيب
وتمادياً في النكير: ما أنزل الله شيئاً من الوحي على أحدٍ، قال الرازي: هذا
اعترافٌ منهم بعدل الله، وإِقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل الكرم، ولكنهم
كذبوا الرسل وقالوا ما نزَّل الله من شيء {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ
كَبِيرٍ} هذا من تتمة كلام الكفار أي ما أنتم يا معشر الرسل إِلا في بعدٍ عن
الحق، وضلال واضح عميق {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} أي
وقال الكفار: لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو كنا نسمع سماع طالب للحق، ملتمسٍ للهدى
{مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي ما كنا نستوجب الخلود في جهنم
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبهِمْ} أي فأقروا بإِجرامهم وتكذيبهم للرسل
{فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي فبعداً وهلاكاً لأهل النار، قال
ابن كثير: عادوا على أنفسهم بالملامة، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة، والجملة
دعائيه أي أبعدهم الله من رحمته وسحقهم سحقاً.
حال السعداء
الأبرار
سبب نزول الآية
(13):
{وأسروا ..}: قال
ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخبَّره
جبريل عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم لئلا
يسمع إله محمد.
ثم لما ذكر حال الأشقياء
الكفار أتبعه بذكر حال السعداء الأبرار فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي يخافون ربهم ولم يروه، ويكفُّون عن المعاصي طلباً
لمرضاة الله {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند الله مغفرةٌ
عظيمة لذنوبهم، وثواب جزيل لا يعلم قدره غير الله تعالى {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ
أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} الخطاب لجميع الخلق أي أخفوا قولكم وكلامكم أيها الناس أو
أعلنوه واظهروه، فسواءٌ أخفيتموه أو أظهرتموه فإِن الله يعلمه {إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي لأنه تعالى العالم بالخفايا والنوايا، يعلم ما يخطر في
القلوب، وما توسوس به الصدور، قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون
من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوا، فقال بعضهم لبعض: أسرُّوا
قولكم لا يسمع إِله محمد، فأخبره الإله أنه لا تخفى عليه خافية {أَلا يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ}؟ أي ألا يعلم الخالق مخلوقاته؟ كيف لا يعلم سرّ المخلوقات وجهرها
وهو الذي خلقها وأوجدها من عدم؟ {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أي والحال
أنه اللطيف بالعباد، الذي يعلم دقائق الأمور وغوامضها، الخبير الذي لا يعزب عن علمه
شيء، فلا تتحرك ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفسٌ إِلا وعنده خبرها .. ثم ذكر تعالى
دلائل قدرته ووحدانيته، وآثار فضله وامتنانه على العباد فقال {هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً} أي الله جل وعلا جعل لكم الأرض لينةً سهلة
المسالك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} أي فاسلكوا أيها الناس في جوانبها
وأطرفها، قال ابن كثير: أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها، وتردّدوا في
أقاليمها وأرجائها للمكاسب والتجارات {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أي وانتفعوا
بما أنعم به جل وعلا عليكم من أنواع الكسب والرزق، قال الألوسي: كثيراً ما
يُعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم، وفي الآية دليل على ندب التسبب
والكسب، وهو لا ينافي التوكل، فقد مرَّ عمر رضي الله عنه بقومٍ فقال: من أنتم؟
فقالوا: المتوكلون فقال: بل أنتم المتواكلون، إِنما المتوكل رجلٌ ألقى حبه في بطن
الأرض وتوكل على ربه عز وجل {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أي وإِليه تعالى المرجع
بعد الموت والفناء، للحساب والجزاء .
توعد الله كفار مكة
المكذبين
ثم توعّد تعالى كفار مكة
المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {ءأَمِنتمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} أي هل أمنتم يا معشر الكفار ربكم العليَّ
الكبير أن يخسف بكم الأرض فيغيبكم في مجاهلها، بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في
مناكبها؟ {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي فإِذا بها تضطرب وتهتز بكم هزاً شديداً
عنيفاً، قال الرازي: والمراد أنَّ الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى
تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها فيذهبون، والأرضُ فوقهم تمور فتلقيهم
إِلى أسفل سافلين {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا} أي أم أمنتم الله العليَّ الكبير أن يرسل عليكم حجارة من السماء، كما
أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل؟ {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي
فستعلمون عند معاينة العذاب، كيف يكون إِنذاري وعقابي للمكذبين!! وفيه وعيد وتهديدٌ
شديد، وأصلها {نذيري} و {نكيري} حذفت الياء مراعاة لرءوس الآيات
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي ولقد كذبت كفار الأمم
السابقة رسلهم، كقوم نوحٍ وعادٍ وثمود وأمثالهم، وهذا تسلية للرسول صلى الله عليه
وسلم وتهديد لقومه المشركين {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كان إِنكاري
عليهم بنزول العذاب؟ ألم يكن في غاية الهول والفظاعة؟ ثم لما حذَّرهم ما عسى أن يحل
بهم من الخسف وإِرسال الحاصب، نبَّههم على الاعتبار بالطير، وما أحكم الله من
خلقها، وعن عجز آلهتهم المزعومة عن خلق شيءٍ من ذلك فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} أي أولم ينظروا نظر اعتبار إلى الطيور
فوقهم، باسطاتٍ أجنحتهن في الجو عند طيرانها وتحليقها، {وَيَقْبِضْنَ} أي
ويضممنها إِذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت؟ ولما كان الغالب هو فتح الجناحين
فكأنه هو الثابت عبَّر عنه بالاسم {صَافَّات} وكان القبض متجدداً عبَّر عنه
بالفعل {وَيَقْبِضْنَ} قال ابن جزي: فإِن قيل: لِمَ لم يقل "قابضات"
على طريقة {صَافَّات}؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن
مدَّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكره بصيغة اسم الفاعل {صَافَّات}
لدوامه وكثرته، وأما قبضُ الجناحين فإِنما يفعله الطائر قليلاً للاستراحة
والاستعانة، فلذلك ذكره بلفظ الفعل لقلته {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا
الرَّحْمَانُ} أي ما يمسكهن في الجو عن السقوط في حال البسط والقبض، إِلا
الخالق الرحمن الذي وسعت رحمته كل ما في الأكوان، قال الرازي: وذلك أنها مع
ثقلها وضخامة أجسامها، لم يكن بقاؤها في جو الهواء إِلا بإِمساك الله وحفظه،
وإِلهامها كيفية البسط والقبض المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن {إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ بَصِيرٌ} أي يعلم كيف يخلق، وكيف يبدع العجائب، بمقتضى علمه
وحكمته.
توبيخ الله للمشركين في
عبادتهم الأصنام
ثم وبَّخ تعالى المشركين في
عبادتهم لما لا ينفع ولا يسمع فقال {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ
يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ}؟ أي من هذا الذي يستطيع أن يدفع عنكم
عذاب الله من الأنصار والأعوان؟! قال ابن عباس: أي من ينصركم مني إِن أردتُ
عذابكم؟ {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ} أي ما الكافرون في اعتقادهم
أن آلهتهم تنفع أو تضرُّ إِلا في جهل عظيم، وضلال مبين، حيث ظنوا الأوهام حقائق،
فاعتزوا بالأوثان والأصنام {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ
رِزْقَهُ}؟ أي من هذا الذي يرزقكم غير الله إِن منع الله عنكم رزقه؟ والخطاب في
الآيتين للكفار على وجه التوبيخ والتهديد، وإِقامة الحجة عليهم {بَلْ لَجُّوا
فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي بل تمادوا في الطغيان، وأصرّوا على العصيان، ونفروا
عن الحق والإِيمان .. ثم ضرب تعال مثلاً للكافر والمؤمن فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ}؟ أي هل من يمشي منكساً رأسه، لا يرى طريقه فهو يخبط خبط عشواءً،
مثل الأعمى الذي يتعثر كل ساعة فيخرّ لوجهه، هل هذا أهدى أم من يمشي منتصب القامة،
يرى طريقه ولا يتعثر في خطواته، لأنه يسير على طريق بيّن واضح؟ قال
المفسرون: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، فالكافر كالأعمى الماشي على غير
هدى وبصيرة، لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه، والمؤمن كالرجل
السويّ الصحيح البصر، الماشي على الطريق المستقيم فهو آمن من الخبط والعثار، هذا
مثلهما في الدنيا، وكذلك يكون حالهما في الآخرة، المؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط
مستقيم، والكافر يحشر يمشي على وجهه إِلى دركات الجحيم، قال قتادة: الكافر
أكبَّ على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين
الواضح فحشره الله على الطريق السويّ يوم القيامة، وقال ابن عباس: هو مثلٌ
لمن سلك طريق الضلالة ولمن سلك طريق الهدى .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة،
ليعرفوا قبح ما هم عليه من الكفر والإِشراك فقال {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي قل لهم يا محمد:
الله جل وعلا هو الذي أوجدكم من العدم، وأنعم عليكم بهذه النعم "السمع والبصر
والعقل" وخصَّ هذه الجوارح بالذكر لأنها أداة العلم والفهم {قَلِيلاً مَا
تَشْكُرُونَ} أي قلَّما تشكرون ربكم على نعمه التي لا تُحصى، قال
الطبري: أي قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم {قُلْ
هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي خلقكم وكثَّركم في الأرض
{وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده مرجعكم للحساب والجزاء
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يكون
الحشر والجزاء الذي تعدوننا به؟ إِن كنتم صادقين فيما تخبرونا به من مجيء الساعة
والحشر، وهذا استهزاء منهم {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي قل
لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة ووقت العذاب عند الله تعالى لا يعلمه غيره
{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي وما أنا إِلا رسولٌ منذر أخوفكم عذاب
الله امتثالاً لأمره .. ثم أخبر تعالى عن حال المشركين في ذلك اليوم العصيب فقال
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً} أي فلما رأوا العذاب قريباً منهم، وعاينوا
أهوال القيامة {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ظهرت على وجوههم
آثار الاستياء، فعلتها الكآبة والغم والحزن، وغشيها الذل والانكسار، قال أبو
حيّان: أي ساءت رؤية العذاب وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، كمن يساق الى
القتل {وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي وقالت لهم
الملائكة توبيخاً وتبكيتاً: هذا الذي كنتم تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه استهزاءً
وتكذيباً.
دعاء كفار مكة على النبي
صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالهلاك
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
أَهْلَكَنِي اللَّهُ وَمَنْ مَعِي أَوْ رَحِمَنَا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتمنون هلاكك: أخبروني إن
أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأخير آجالنا {فَمَنْ يُجِيرُ
الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فمن يحميكم من عذاب الله الأليم، ووضع
لفظ {الْكَافِرِينَ} عوضاً عن الضمير "يجيركم" تشنيعاً وتسجيلاً عليهم
بالكفر، قال المفسرون: كان الكفار يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وسلم
والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إِن أهلكني الله بالإِماتة وأهلك من معي، فأي
راحةٍ وأي منفعة لكم فيه، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إِذا نزل بكم؟ هل تظنون أن
الأصنام تخلصكم وتنقذكم من العذاب الأليم؟ {قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ آمَنَّا بِهِ
وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي قل لهم: آمنا بالله الواحد الأحد، وعليه اعتمدنا
في جميع أمورنا، لا على الأموال والرجال {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ} أي فسوف تعلمون عن قريب من هو في الضلالة نحن أم أنتم؟ وفيه تهديد
للمشركين {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي قل لهم يا
محمد: أخبروني إِذا صار الماء غائراً ذاهباً في أعماق الأرض، بحيث لا تستطيعون
إِخراجه {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} أي فمن الذي يخرجه لكم حتى
يكون ظاهراً جارياً على وجه الأرض؟ هل يأتيكم غير الله به؟ فلم تشركون مع الخالق
الرازق غيره من الأصنام والأوثان؟