* هذه السورة الكريمة مكية،
وأهدافها نفس أهداف السور المكية، تعالج أمور العقيدة وتتحدث عن الدعوة الإِسلامية
في مواجهة خصومها الألداء.
* ابتدأت السورة الكريمة
بإِعلان الحرب على المطففين في الكيل والوزن، الذين لا يخافون الآخرة ولا يحسبون
حساباً للوقفة الرهيبة بين يدي أحكم الحاكمين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ*
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا
كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ}.
* ثم تحدثت عن الأشقياء
الفجار، وصوَّرت جزاءهم يوم القيامة، حيث يساقون إِلى الجحيم مع الزجر والتهديد
{كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ* وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ} الآيات.
* ثم عرضت لصفحة المتقين
الأبرار، وما لهم من النعيم الخالد الدائم، في دار العز والكرامة، وذلك في مقابلة
ما أعدَّه الله للأشقياء الأشرار، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب
{إِنَّ الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم *
يُسقون من رحيقٍ مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس
المتنافسون}.
* وختمت السورة الكريمة
بمواقف أهل الشقاء والضلال، من عباد الله الأخيار، حيث كانوا يهزءون بهم في الدنيا
ويسخرون عليهم لإِيمانهم وصلاحهم {إِن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون
* وإذا مروا بهم يتغامزون} إلى آخر السورة
الكريمة.
عقاب المطففين في الكيل
والوزن
سبب النزول
:
نزول الآية (1)
:
أخرج النسائي وابن
ماجه بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا
من أبخس الناس كيلاً، فأنزل الله : {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل
بعد ذلك.
{وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ} أي هلاك وعذاب ودمار، لأولئك
الفجار الذين ينقصون المكيال والميزان، ثم بيَّن أوصافهم القبيحة بقوله
{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} أي إِذا أخذوا
الكيل من الناس أخذوه وافياً كاملاً لأنفسهم {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ
وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أي وإِذا كالوا للناس أو وزنوا لهم، ينقصون الكيل
والوزن قال المفسرون: نزلت في رجلٍ يُعرف بـ "أبي جهينة" كان له صاعان، يأخذ
بأحدهما ويعطي بالآخر وهو وعيدٌ لكل من طفَّف الكيل والوزن، وقد أهلك الله قوم شعيب
لبخسهم في المكيال والميزان، وفي الحديث (ولا طففوا الكيل إِلاّ منعوا النبات
وأُخذوا بالسنين) {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ*
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} أي ألا يعلم ويستيقن أولئك المطففون أنهم سيبعثون ليوم
عصيب، شديد الهول، كثير الفزع ؟! {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ} أي يوم يقفون في المحشر حفاةً عراةً، خاشعين خاضعين لرب
العالمين قال أبو حيّان: وفي هذا الإِنكار والتعجيب، ووصف اليوم بالعظم،
وقيام الناس لله خاضعين، ووصفهُ برب العالمين، دليلٌ على عظم هذا الذنب وهو
التطفيف، وفي الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى يغيب أحدهم في رشحه إِلى أنصاف
أُذنيه.
مآل
الفجار
ثم ذكر تعالى مآل الفجار،
ومآل الأبرار فقال {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} أي
ليرتدع هؤلاء المطففون عن غفلتهم عن البعث والجزاء، فإِن كتاب أعمال الأشقياء
الفجار، لفي مكان ضيّق في أسفل سافلين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}
استفهام للتعظيم والتهويل أي هل تعلم ما سجين؟ {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} أي هو
كتاب مكتوبٌ كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى، أُثبتت فيه أعمالهم الشريرة قال
ابن كثير : {سِجِّينٌ} مأخوذ من السجن وهو الضيق، ولما كان مصير الفجار إِلى
جهنم وهي أسفل سافلين، وهي تجمع الضيق والسفول، أخبر تعالى أنه كتاب مرقوم أي
مكتوبٌ مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار للمكذبين {الذين يكذبون بيوم الدين} أي
يكذبون بيوم الحساب والجزاء {وما يكذِّب به إلا كلُّ معتدٍ أثيم} أي وما
يكذب بيوم الحساب والجزاء ألا كل متجاوز الحد في الكفر والضلال، مبالغ في العصيان
والطغيان، كثير الآثام، ثم وضّح من إِجرامه فقال {إِذا تتلى عليه آياتُنا قال
أساطيرُ الأولين} أي إِذا تليت عليه آيات القرآن، الناطقة بحصول البعث والجزاء،
قال عنها: هذه حكايات وخرافات الأوائل، سطروها وزخرفوها في كتبهم {كلا بل ران
على قلوبهم ما كانوا يكسبون} أي ليرتدع هذا الفاجر عن ذلك القول الباطل، فليس
القرآن أساطير الأولين، بل غطَّى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم
فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي قال المفسرون: الرَّان هو الذنب على الذنب
حتى يسودَّ القلب {كلاَّ إِنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون} أي ليرتدع هؤلاء
المكذبون عن غيهم وضلالهم، فهم في الآخرة محجوبون عن رؤية المولى جل وعلا فلا يرونه
قال الشافعي: وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل وقال مالك:
لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلَّى لأوليائه حتى رأوه {ثمَّ إِنَّهم لصالوا
الجحيم} أي ثم إِنهم مع الحرمان عن رؤية الرحمن، لداخلو الجحيم وذائقو عذابها
الأليم {ثم يُقال هذا الذي كنتم به تكذبون} أي ثم تقول لهم خزنة جهنم على
وجه التقريع والتوبيخ: هذا العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا {أفسحرٌ هذا أم
أنتم لا تُبصرون}؟
مآل
الأبرار
وبعد الحديث عن حال الفجار،
ذكر تعالى نعيم الأبرار فقال {كلاَّ إِن كتاب الأبرار لفي علّيين}
{كلاَّ} ردعٌ وزجر أي ليس الأمر كما يزعمون من مساواة الفجار بالأبرار، بل
كتابهم في سجين، وكتاب الأبرار في عليين، وهومكان عالٍ مشرَّف في أعلى الجنة قال
ابن جزي : ولفظ {علِّيين} للمبالغة، وهو مشتق من العلوِّ لأنه سبب في
ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه في مكان عليٍّ رفيع فقد روي أنه تحت العرش
{وما أدراك ما علِّيون} تفخيمٌ وتعظيم لشأنه أي وما أعلمك يا محمد ما هو
عليّون ؟ {كتابٌ مرقومٌ} {يشهده المقربون} أي كتابُ الأبرار كتابٌ
مسطَّر، مكتوب في أعمالهم، وهو في عليين في أعلى درجات الجنة، يشهده المقربون من
الملائكة قال المفسرون : إِن روح المؤمن إِذا قُبضت صُعد بها إِلى السماء، وفتحت
لها أبواب السماء، وتلقتها الملائكةُ بالبشرى، ثم يخرجون معها حتى ينتهوا إِلى
العرش، فيخرج لهم رقٌّ فيكتب فيه ويختم عليه بالنجاة من الحساب والعذاب ويشهده
المقربون {إِن الأبرار لفي نعيم} أي إِن المطيعين لله في الجنات الوارفة،
والظلال الممتدة يتنعمون {على الأرائك ينظرون} أي هم على السرر المزينة
بفاخر الثياب والستور، ينظرون إِلى ما أعدَّ الله لهم من أنواع الكرامة والنعيم في
الجنة {تعرفُ في وجوههم نضرةَ النَّعيم} أي إِذا رأيتهم تعرف أنهم أهل نعمة،
لما ترى في وجوههم من النور والبياض والحسن، ومن بهجة السرور ورونقه {يُسْقونَ
من رحيقٍ مختوم} أي يُسقون من خمرٍ في الجنة، بيضاء طيبة صافية، لم تكدرها
الأيدي، قد ختم على تلك الأواني فلا يفك ختمها إِلا الأبرار {ختامُه مسك} أي
آخر الشراب تفوح منه رائحة المسك {وفي ذلك فليتنافس المُتنافسون} أي وفي هذا
النعيم والشراب الهنيء، فليرغب بالمبادرة إِلى طاعة الله، وليتسابق المتسابقون قال
الطبري : التنافسُ مأخوذ من الشيء النفيس الذي يحرص عيه الناس، وتشتهيه وتطلبه
نفوسهم والمعنى فليستبقوا في طلب هذا النعيم، ولتحرص عليه نفوسهم {ومزاجه منْ
تسنيم} أي يمزج ذلك الرحيق من عينٍ عالية رفيعة، هي أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه
تسمى "التسنيم"، ولهذا قال بعده {عيناً يشربُ بها المقربون} أي هي عينٌ في
الجنة يشرب منها المقرّبون وحدهم، وتمزج لسائر أهل الجنة قال ابن جزي: تسنيم
اسمٌ لِعَينٍ في الجنة يشرب منها المقربون صرفاً، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه
الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة
الأبرار.
معاملة الكفار في الآخرة
بمثل معاملتهم للمؤمنين في الدنيا
سبب
النزول:
نزول الآية
(29):
ذكر العلماء في
سبب النزول وجهين :
الأول:
أن المراد من قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} أكابر المشركين كأبي جهل
والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السَّهْمي، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال
وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.
الثاني: جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من
المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم، فقالوا:
رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ولما ذكر تعالى نعيم
الأبرار، أعقبه بذكر مآل الفجار، تسليةً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم فقال {إِن
الذينَ أجرموا كانوا من الذين آمَنوا يضحكون} أي إن المجرمين الذين من طبيعتهم
الإِجرام وارتكاب الآثام، كانوا في الدنيا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم قال في
التسهيل : نزلت هذه الآية في صناديد قريش كأبي جهل وغيره، مرَّ بهم علي بن أبي طالب
وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم {وإِذا مروا بِهم يتغامزُون}
أي وإِذا مرَّ هؤلاء المؤمنين، غمز بعضهم بعضاً بأعينهم سخرية واستهزاءً بهم قال
المفسرون: كان المشركون إِذا مرَّ بهم أصحاب رسول الله، تغامزوا بأعينهم
احتقاراً لهم وازدراءً يقولون: جاءكم ملوك الدنيا، يسخرون منهم لإِيمانهم
واستمساكهم بالدين {وإِذا انقلبوا إِلى أهلهم انقلبوا فكهين} أي وإِذا انصرف
المشركون ورجعوا إِلى منازلهم وأهليهم، رجعوا متلذذين يتفكهون بذكر المؤمنين
والاستخفاف بهم قال أبو حيّان: أي رجعوا متلذذين بذكرهم وبالضحك منهم
استخفافاً بأهل الإِيمان {وإِذا رأوهم قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون} أي وإِذا
رأى الكفار المؤمنين قالوا: إِن هؤلاء لضالون لإِيمانهم بمحمد، وتركهم شهوات الحياة
قال تعالى رداً عليهم {وما أُرسلوا عليهم حافظين} أي وما أُرسل الكفار
حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وفيه تهكم وسخرية
بالكفار كأنه يقول : أنا ما أرسلتهم رقباء، ولا وكلتهم بحفظ أعمال عبادي المؤمنين،
حتى يرشدوهم إِلى مصالحهم، فلم يشغلون أنفسهم فيما لا يعنيهم ؟ {فاليوم الذين
آمنوا من الكفار يضحكون} أي ففي هذا اليوم - يوم القيامة - يضحك المؤمنون من
الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، جزاءً وفاقاً {على الأرائك ينظرون}
أي والمؤمنون على أسرَّة الدر والياقوت، ينظرون إِلى الكفار ويضحكون عليهم قال
القرطبي: يقال لأهل النار وهم في النار اخرجوا، فتفتح لهم أبواب النار، فإِذا
رأوها قد فتحت أقبلوا إِليها يريدون الخروج، والمؤمنون ينظرون إِليهم على الأرائك،
فإِذا انتهوا إِلى أبوابها أغلقت دونهم، فيضحك منهم المؤمنون {هل ثُوّب الكفَّار
ما كانوا يفعلون} أي هل جوزي الكفار في الآخرة بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين من
السخرية والاستهزاء ؟ نعم.